إن وضعية علوم الإنسان لأشد تعقيدا لكون الذات التي تلاحظ أو تجرب على نفسها أو على الذوات الأخرى المماثلة لها قد يلحقها تغيير مصدره الظواهر التي تتم ملاحظتها من جهة، كما يمكن أن تكون الذات من جهة أخرى مصدر تغييرات في مجرى هذه الظواهر بل حتى في طبيعتها.
إن وضعية من هذا القبيل، التي تتداخل فيها الذات بالموضوع،هي سبب الصعوبات الإضافية التي تعرفها علوم الإنسان مقارنة مع العلوم الطبيعية، هذه الأخيرة استطاعت، بشكل عام، الفصل بين الذات و الموضوع. وبتعبير آخر، إن عملية اللاتمركز باعتبارها ضرورية من أجل تحقيق الموضوعية، تصبح أكثر صعوبة في حالة الموضوع المنفتح على ذوات متعددة، و ذلك راجع إلى سببين حاسمين : يتمثل أولهما في كون الحدود الفاصلة بين الذات المتمركزة حول نفسها و بين الذات الإبيستيمية (العارفة) تكون أقل وضوحا من تلك الأنا الملاحظة التي تلتزم بدراسة الظواهر من الخارج. و يتحدد ثانيهما في ميل الملاحظ إلى إدراك المعارف حسيا. فكلما "التزم" بإضفاء المعنى على الوقائع المدروسة، كلما قلص من اعتماده التقنيات الموضوعية. (...) و لكن قبل الدخول في تفاصيل الوضعيات المختلفة، علينا قبل كل شيء، أن نذكر بكون هذه الصعوبات التجريبية الخاصة ليست لصيقة بعلوم الإنسان فقط، بدعوى أن موضوع الدراسة قد يكون مشتركا، و هذا ما يجد الملاحظ نفسه منخرطا فيه. إن الصعوبة قبل كل شيء، هي أعم و أشمل و تتمثل في استحالة التأثير الإرادي على موضوعات الملاحظة، حينما يتعلق الأمر بمستويات أقوى تفوق الفعل الفردي. و الحال أن هذا العائق النسبي المرتبط بالظواهر ليس خاصا بالعلوم الإجتماعية، و إنما يمكن ملاحظته أيضا، في العلوم الطبيعية في الفلك مثلا، و خصوصا في الكوسمولوجيا و في الجيولوجيا اللذين يمكن اعتبارهما كتخصصين تاريخيين.
Piaget, épistémologie des Sciences de l’homme, Gallimard, Coll. Idée ، 1970 .pp 47-64.